دروس وعبر

       غزوة بدر الكبرى: دروس وعبر

  •        غزوة بدر الكبرى: دروس وعبر
  •        غزوة بدر الكبرى: دروس وعبر

اخرى قبل 5 سنة

•           غزوة بدر الكبرى: دروس وعبر
تقديم عام

في كل رمضان نكون على موعد مع  ذكرى غالية على قلوب المسلمين جميعا، ذكرى غزوة بدر الكبرى. نسأل الله تعالى أن يجدد بها الإيمان في القلوب، ويبعث من خلالها الكريم الوهاب الهمم والعزائم بما تحمله الذكرى من دروس الصبر والثبات عند أزمة الموقف، و دروس الجهاد لإعلاء كلمة الله و بذل النفس والنفيس لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ودروس التوكل  على الله مع الأخذ بالأسباب.يقول الإمام المجدد رحمه الله:

 تتجدَّدُ الذكريات ولا تتجدد الإرادة، اليوم هو اليوم الخامس عشر رمضان، بعد يومين تحل ذكرى غزوة بدر وماأدراك ما غزوة بدر، فيها قطع الله دابر الشرك، وفيها نصر الله الإسلام. ستسمعون أحبتي في المساجد وتقرأون في المجلات والصحف وتسمعون في المذياع والتلفاز الحديث الرسمي وشبه الرسمي عن غزوة بدر، فكأنها أغنية تتكرر كل سنة تقول : ناموا فإنما يكفيكم الاعتزاز بالماضي ! تُنَوِّمُنا فننعس وننام. يجدد لنا الإسلام الرسمي وشبه الرسمي هذه الأيام الكريمة في تاريخ الإسلام وفي جهاد المسلمين، لكنها لا تجدد إرادتنا ولا تجدد عزمنا كي ننهض ونفعل مثل ما فعلوا،كي ننهض ونجاهد في سبيل الله. ونرفع لواء 1

إذن فهي ليست ذكرى من أجل التغني بأمجاد الماضي التليد، لكنها مدرسة تلقى في حلبتها الصحابة رضوان الله عليهم، والأجيال المؤمنة من بعدهم دروسافي المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفاسنحاول تلمس معالمه من خلال أحداث هذه الغزوة المباركة إن شاء الله.

بدر حلقة من حلقات الدعوة النبوية

إن غزوة بدر لا يمكن عزلها عن السنوات الأولى من الدعوة، بل هي امتداد لها وحلقة من حلقاتها. فثلاثة عشرة سنة في مكة إضافة إلى عامين في المدينة، كل هذه السنوات كانت كافية لتربية الصحابة عن طريق الصحبة المباشرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يجمعهم على الله تعالى في مجالس الذكر والعلم والإيمان في بيت سيدنا الأرقم بن أبي الأرقم في مكة المكرمة، والذي جمعهم من بعد ذلك في المسجد النبوي في المدينة المنورة. بهدف توثيق صلتهم بالله تعالى والترقي بهم في مدارج الإيمان من جهة، ومن جهة أخرى بهدف تربيتهم بالمواقف لطلب حقهم وإثبات وجودهم والتعبير عن دعوتهم والجهر بها في الناس من أجل تكوينهم رجالا مجاهدين بعد أن رباهم رجالا ربانيين.

فهي تربية جعلت الهدف  من هذه الغزوة هو البحث عن الخلاص الجماعي للأمة بتحقيق العدل، بما يعنيه العدل من استرجاع المستضعفين لحقوقهم المسلوبة كاملة من أمن وحرية وكرامة وإنصاف، وبما يعنيه من تمكين لدين الله عز وجل في الأرض ورفع رايته. فالبحث عن الخلاص الفردي والخلاص الجماعي كان مجموعا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن ما لبث أن تفرق مع عهود الفتنة.

يقول الإمام المجدد رحمه اللهفي كتاب المنهاج النبوي:“الواجهة الأولى في الجهاد هي واجهة التربية. نعني تربية الإيمان بمفهومه اقتحاما للعقبة وبكل شعبه. التربية أولا ووسطا وآخِرا، ولا آخَر، ودائما……..دامت التربية الجهاد الأكبر ثلاث عشرة سنة في مكة.وصحب الجهاد الأكبر الجهاد الأصغر طيلة العشر الباقيات. فقد كانت الغزوات والسرايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعدل واحدة كل شهرين ونيف. لا يرجعون من غزوة وسرية إلا ليستعدوا لمثلها ويتزودوا…” 2

غزوة بدر و درس التخطيط والتنظيم

  إن أبرز ما جاءت به غزوة بدر في شقها التنظيمي هو التأكيد على ناظمة الشورى، باعتبارها مبدأً من مبادئ الشريعة وأصلاً من أصول الحكم، وناظمة أساسية لبناء تنظيم منسجم متعاون يجسّد حقيقة المشاركة في الفكر والرأي، بما يخدم المصلحة. فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المؤيّد بالوحي استشار أصاحبه في تلك الغزوة أربع مرّات، فاستشارهم حين الخروج لملاحقة العير، واستشارهم عندما علم بخروج قريشٍ للدفاع عن أموالها، واستشارهم عن أفضل المنازل في بدر، واستشارهم في موضوع الأسرى، وكلّ ذلك ليعلّم الأمة أن أمر الشورى ليس ترف استطلاع للآراء، ولكنه ضرورة ،خاصة في المواقف الحاسمة للأمة مهما كانت حكمة قائدها.

نبقى مع هذا المشهد التنظيمي الخالد .يقف الرسول صلى الله عليه وسلم على مشارف بدر، فيستطلع آراء الصحابة في خوض المعركة،ومن ثم “أتَاهُ الْمِقْدَادُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ (سورة المائدة آية 24)، وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَنَكُونَنَّ مِنْ بَيْنَ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ، أَوْ يَفْتَحُ اللَّهُ لَكَ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الأَنْصَارَ، …، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ، لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَا أَرَدْتَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا. إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدْقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ” .

وبذلك حصل الإجماع، والتقت عزائم القلوب والإرادات على حد سواء،  وهكذا تلتقي رحمة القيادة، مع المحبة والثقة والوفاء، لتجتمع في قالب شوري، فتكون الطاعة أمرا تلقائيا تغني عن عزمة الأمير صلى الله عليه وسلم وحده، رغم ما خوله الله تعالى من نفاذ ذلك.

في العبر المستفادة من غزوة بدر

 الأخوة في الله

إن تلكم الرابطة القوية، التي التحمت فيها القيادة بجند الله، وتلك الصحبة المباركة التي أحكمت رباط قلوب جماعة المومنين، جعلت الطاعة للأمير ليست مجرد انضباط عسكري جاف، ولكنها ثمرة فؤاد وولاء صادق، وهذه الخصلة المباركة، كانت تطفو معانيها في صف عصبة المؤمنين المجاهدين بين الفينة والأخرى.

ومن هذه المواقف:  “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قَدح يُعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية – حليف بني عدي بن النجار – وهو مستنتل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: “استو يا سواد”، فقال: يا رسول الله! أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقدني. قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: “استقد”، قال: فاعتنقه فَقَبَّل بَطْنه، فقال: “ما حملك على هذا يا سواد؟” قال: يا رسول الله! حَضَر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك: أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير” ، إنها معاني حب رسولالله تحرك مشاعر المجاهدين، فتزيد الصفوف رصا من نوع آخر، و تبلي البلاء الحسن عند تلاحم المعركة والتقاء الجمعان.

ومن هذه المواقف كذلك ما أورده الإما م المجدد في كتاب القرآن والنبوة: “منحديث ابن إسحاق رحمه الله أن سعد بن معاذ رضي الله عنه اقترح على النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أن يبنوا له عريشا يكونُ فيه. قال: «ثم نلقى عدونا. فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا. وإن كانت الأخرى جلستَ على ركائبك (أي ركبت عليها)، فلحقت بمن وراءنا من قومنا. فقد تخلَّفَ عنك أقوام ما نحن بأشدَّ حبا لك منهم. ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك.”بهذا ومثله ندرك أهمية الحب في الله في حياة الأمة المقاتلة. أشداء على الكفار رحماء بينهم. تلك الشدة توَتُّرٌ يستند إلى هذه الرحمة، وتستمد قوتها منها. يقاتلون حبا لله وفداء لرسوله ورحمة بينهم. حبل الحب لله وفي الله ممتد قوي وثيق. لا جرم أن تنكسر على حده قوى العنف الجاهلي وعصبياته.” 3

 روحانية عليا

تلقن معركة بدر السابق واللاحق من المؤمنين، أصلا تربويا آخر، يتعلم المجاهد معه معنى اللَّجَأ إلى الله تعالى والإيواء إلى ركنه الشديد وذكره الكثير في مواطن الجهاد  والارتماء في كنفه المنيع إذ يقول الحق سبحانه : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون

في موقف الحسم بنزال بدر الكبرى، تقص لنا السيرة النبوية، ابتهال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، والاجتهاد في الدعاء والتوجه والإقبال على المولى الكريم، “لما كان يوم بدر نظر النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي – صلى الله عليه وسلم – القبلة، ثم مد يديه، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: اللهم أين ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا، قال: فما زال يستغيث ربه [عز وجل] ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله -عز وجل-: “إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ” وقد كانت حالة الاستغاثة واللجإ إلى الله تعالى حالة جماعية كما يبين ذلك منطوق الآية ومفهومها،فذكر الله تعالى هو ملاذ ثبات المجاهدين و معيار سبق المفردين.

قال الإمام المجدد:“ذكر الله به يتقدس الكيان القلبي للمؤمن، ويكون التقديس أعظم إن كان ذكر الله أدومَ. ويكون ذكر الله أعظم إن كانت دواعي الغفلة وأزمة الموقف أشدَّ. وبهذا يكون الذكر في الجهاد، الذكر عندما يخاف الناس ويزدحمون على مخارج الأمان ومهارب الجبن، أكبر الذكر…نحن نسأل الله القوي العزيز الحنان المنان أن يكون مستقبلُ الذاكرين الله كثيرا في ساحات الجهاد بكل وجوه الجهاد، تأسيا بالأسوة العظمى صلى الله عليهوسلم وبمن معه..” 4

الصدق و البذل

كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يحرض الصحابة على قتال العدو، ويرفع من معنوياتهم طلبا لرضا الله تعالى، فكانت هذه الروح تحلق عاليا في طلب الحسنى وزيادة، تكسب المجاهد ثباتا قل نظيره، والعدو رهبة وفزعا، فهذا نموذج من الصحابة يستعجل لقاء ربه شهيدا، فعندما “”دنا المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، فقال عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخ بخ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة قال فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل”.

مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.فكان عمير رضي الله عنه بذلك أول شهيد للأنصار قتل في سبيل الله.

يقول الإمام المجدد رحمه الله في المنهاج: “إن لم نرب نفوسنا على الجهاد والسخاء بالمال والنفس، وبذل المال والنفس، فلا حياة.إن لم يكن كل فرد من جند الله مستعدا للموت، أهون ما يكون عليه ذلك، بل أحب ما يكون إليه، ما دام واثقا أنه في سبيل الله، فلا حياة للأمة.”

 

ومن مظاهر صدق الصحابة في طلب وجه الله وما عند الله ما ظهرمن صدقهم في موالاتهم للمؤمنين، ومعاداتهم للكافرين في غزوة بدر وإن كانوا عشيرتهم،فقد قتل عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام بن المغيرة، ولم يلتفت إلى قرابته منه، وهَمّ أبو بكر بقتل ابنه عبد الرحمن، وقتل حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث أبناء عمهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة في المبارزة  وذلك في المبارزة، قال تعالى:  لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللّـهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ  [المجادلة: 22].

العلم

كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حرصه على معرفة جيش العدو والوقوف على أهدافه ومقاصده أن يستطلع خطوط العدو ،لأن ذلك يعينه على رسم الخطط الحربية المناسبة لمجابهته وصد عدوانه, فقد كانت أساليبه في غزوة بدر في جمع المعلومات تارة بنفسه وأخرى بغيره، وكان صلى الله عليه وسلم يطبق مبدأ الكتمان في حروبه، فقد أرشد القرآن الكريم المسلمين إلى أهمية هذا المبدأ قال تعالى:  وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 83].

ففي مساء ذلك اليوم  أرسل عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يتسقصون له الأخبار عن جيش قريش، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش المشركين فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: «أخبراني عن جيش قريش» فقالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم القوم؟» قالا: كثير، قال: «ما عدتهم؟» قالا: لا ندري، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كم ينحرون كل يوم؟» قالا: يومًا تسعًا ويومًا عشرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة والألف»، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ فذكرا عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا جهل وأمية بن خلف في آخرين من صناديد قريش، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه قائلا: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها»

كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش إلى كتيبتين: كتيبة المهاجرين بقيادة علي بن أبي طالب، وكتيبة الأنصار بقيادة المقداد بن عمرو، وعندما اختار مكان نزول الجيش، نزل عن رأيه صلى الله عليه وسلم، وقدم رأي أعلم الصحابة بالعلوم الحربية بلغة العصر وهو سيدنا “الحباب بن المنذر بن الجموح” إذ قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاأنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤهماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية” .

العمل

من خلال ما أوردنامن أحداث ما قبل المعركة، ورغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم والثلة من أصحابه الذين لم يتجاوزوا الثلاثمائة وأربعة عشر رجلا، فيهم فارسان، فقد بذل ما في وسعه من الأخذ بالأسباب الأرضية الظاهرة، سيرا على سنة الله الكونية، وهو المؤيد بالله ، والموعود بالنصر في هذه المعركة، ليعلم أمته من بعده أن الأخذ بالأسباب عبادة لا تتنافى مع التوكل الدائم على الله تعالى.

قال الإمام رحمه الله:“سنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة. إن آمنوا وعملوا الصالحات، لا إن أخلوا بالشرط الجهادي حالمين بالمدد الإلهي الخارق للعادة، وهو مدد لا يتنـزل على القاعدين بل يخص به الله من قام وشمر وتعب في بذل الجهد، وأعطى الأسباب حقها، وأعد القوة وبذل المال والنفس وحزب جند الله وجيشهم وسلحهم وتربص بالعدو وخادعه وماكره وغالبه. احترام نواميس الله في الكون وسنته في التاريخ مع صعود النيات إلى الملك الحق مفاتيح لأبواب السماء، بها مع الصلاة والدعاء تتنـزل السكينة وتغشى الرحمة وتَهب رياح النصر برفرفة أجنحة الملائكة…بين طرفي إلغاء الأسباب وإلغاء الغيب من الحساب يقع صواب الإيمان بقدرة الله تعالى المطلقة والاحترام المشروط على المؤمنين لسنته في الكون والتاريخ. “ 5

إذن بعد ذلك وبعد ذلك فقط يأتي تأييد الله عباده المجاهدين بالغيب وهي ،شعبة من شعب خصلةالعمل.فمن مظاهر التأييد الإلهي للمومنينأن ليلة المعركة أنزل الله تعالى مطرا كان على المسلمين خيرا ورحمة، إذ هدأ النفوس وطهرها من رجز الشيطان، وثبت الأرض الرملية لتخف حركة المسلمين؛ في حين كان وبالا على المشركين إذ منعهم من التقدم وعرقل حركتهم وقدف الرعب في قلوبهم.وليلة المعركة، نام المسلمون نوما عميقا تهيؤوا بل هيأهم الله تعالى به نفسيا وجسديا للمعركةثم نزول المدد من  الملائكة مسومين مردفين، وقد سجل القرآن الكريم هذه التأييدات في سورة الأنفال قال عز من قائل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ

تعليقا منه على كلام الله الخالد وما وقع من نصر الله للمومنين يوم بدر وإمداده لهم بجنده، يقول  محمد عبادي حفظه الله في معنى كلامه ” إن ملائكة بدر ما تزال مستعدة متحفزة، فقط تنتظر رجالا مثل رجال بدر”.

 التوكل على الله تعالى

وقد ورد في  حقائق التفسيرللسلمي (ت 412 هـ)  في تفسير قوله تعالى: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[الآية: 123].

لضعفكم وصحة توكلكم على ربكم وانقطاعكم عن حولكم وقوتكم وردكم الأمر إليه بالكلية، وأنتم أذلة عند أنفسكم لقلتكم وما كان يدٌ وعزّ قط إلا بتذليل النفس ومنعها من الشهوات، فأنزل الله عليكم نصره وأيدكم وفي المقابل: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً }[التوبة: 25].

ثم جاءت تلك الإشارة الربانية،الموجهة لقلوب المجاهدين ونياتهم تعلمهم كمال الأدب مع الحق سبحانه، وهم يعالجون رؤوس الكفر، حيث لا أمان من الالتفات والاعتزاز بالنفس، مع نشوة النصر، حيث كبرياء قريش تتعفر في ثرى المعركة، بتهاوي الزعماء والأشراف واحدا تلو الآخر، هنا وجب التذكير، والتحصين، لتنسب كل حركة رمي إلى الله:تعالى فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أو خاتمة نصر من الله: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لأنه الفاعل في كونه سبحانه وتعالى، فعال لما يريد.

الصبر

 

قال الإمام في رسالة التذكير:“التُّؤدة صبر ورِفق وطولُ نفس، وتحمّلٌ للأذى. أولئك الذين يحبهم الله ويحبونه قوم أذلةٌ على المومنين أعزةٌ على الكافرين. كيف تكون رحمةً على المسلمين وصاعقة على الكافرين والمنافقين؟”.

فالمولى سبحانه، اشترط على الفئة المؤمنة التزام الصبر والتقوى  بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ فالصبر نصف الإيمان، والتقوى عماد الدين كله.

وقد ظهر صبر الصحابة وحسن بلائهم جليا في الغزوة، نذكر من ذلك موقف الصحابية الجليلة الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ التي خلدت للأمة درسا في الصبر و الفداء بالروح وفلذة الكبد، فقد روى أَنَس بن مالك رضي الله عنه “أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ابْنُهَا الْحَارِثُ بْنُ سُرَاقَةَ أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ حَارِثَةَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ احْتَسَبْتُ وَصَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُصِبِ الْجَنَّةَ اجْتَهَدْتُ فِي الدُّعَاءِ، فَقَالَ: “يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى” وكان حارثة غلاما في مقتبل العمر.

ثم ظهر موقف الرفق في مسألة الأسرى حيث أسروا من المشركين سبعين رجلا، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابهفي شأنهم،فكان رأيه من رأي أبي بكر إذ قال : يا رسول الله، هؤلاء بنو العمِّ والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوةً لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عَضُدًا.” وعلى الرغم من نزول الآيات بعد هذا الموقف تعاتب رسول اللهأنه أخذ بالرفق واللين مع هؤلاء الأسرى في هذا الموقف {لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] رغم ذلك لم يكن هذا دافعًا لأن يسيء رسول اللهمعاملة هؤلاء الأسرى، أو يُغَيِّر من تعامله معهم بعد أن أخذ قرارًا بإعفائهم من القتل، وقبول الفدية ممن يستطيع.

 

الموت في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى

أورد الإمام المجدد في المنهاج النبوي عن معنى تجريد القصد لله تعالى في غزوة بدر ما يلي:“إن كان تجديد الإسلام يعني شيئا فمعناه هنا أن نرفع من إيمان المجاهدين بالتربية إلى مقارنة النموذج النبوي، نموذج الأحبة، محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه.هم كانوا يهتفون «الله أكبر» وكان الله أكبر في نفوسهم. يعاتب الله عز وجل المجموع في قوله عز وجل من قائل: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}.عتاب للمجموع. تذكير بمقتضيات الجهاد، وواجب الموت في سبيل الله.فلعل نفسا واحدة من تلك النفوس الشريفة ساورها لحظة حساب السهولة، ورجاء النصر القريب لو لقي المسلمون عير أبي سفيان بدل جيش قريش.ولعل بتلك المساورة، في تلك اللحظة، جاءنا الخطاب الإلهي لكيلا ننسى أن شعار «الله أكبر» ينتظر البذل بلا حساب، ينتظر من المجاهد أن يموت في أي لحظة.وفي كل مجموعة نفوس قد تضعف فتكون دون ما يعلن عنه الشعار. من هنا واجبنا أن نرفع الهمم حتى يكون الموت في سبيل الله هو غاية أمانينا حقا.” 6

كما أن الحق سبحانه وتعالى وهو العليم بكوامن النفوسعالج نية الصحابة وقصدهم في مسألة الغنائم، لما تحركت بعض النفوس تتسابق عليها، وهي تسأل عن الأحق بها، وهذه طبيعة النفس البشرية، عندما يعتريها الضعف أمام مباهج الدنيا حتى وإن كان بعض أصحابها من الرعيل الأول وخير القرون صحبة ومددا وتربية يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ، قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ  ، ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولاً وعملاً. نزع أمر الأنفال كله منهم ليصحح قصدهم ورده إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها…

الخاتمة

إن غزوة بدر الكبرى ليست حدثا تاريخيا ولى زمانه، ولكنها معلمة ومنار ينير للمسلمين في كل زمان طريق العزة والحياة الطيبة الكريمة طريق المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزجفا.وهي معنىً متجددٌ في الأمة متى قامت لتحق الحق وتبطل الباطل، ولسان حالها يقول: على أيدينا نسأل الله عز وجل أن ينزل قدره.

[1] الإسلام.المجلس الثالث(سلامة القلوب)ص8

[2] المنهاج النبوي ص387

[3] القرآن والنبوة ص61

[4] الإحسان ج1 ص260

[5] سنة الله ص9

[6] المنهاج النبوي ص379

التعليقات على خبر:        غزوة بدر الكبرى: دروس وعبر

حمل التطبيق الأن